كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحاصلة: أن الميت المقذوف يحد قاذفه بطلب من وجد من فروعه، وإن سفلوا أو واحد من أصوله، وإن علوا. ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الأخوة والعصبة، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد، فللأخوة والعصبة القيام، ويحد للمقذوف بطلبهم. هذا حاصل مذهب مالك في المسألة، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميت أبًا أو أمًا، وبعض أهل العلم يفرق بين قذف الأب والأم، لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها، لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أمه.
وقال ابن قدامة في المغني: وإن قذف أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة، حد القاذف إذا طلب الابن وكان حرًا مسلمًا، أما إذا قذف وهي في الحياة، فليس لولدها المطالبة لأن الحق لها، فلا يطالب به غيرها، ولا يقوم غيرها مقامها، سواء كانت محجورًا عليها أو غير محجور عليها، لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص، وتعتبر حصانتها حصانتها، لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد. وأما إن قذفت وهي ميتة. فإن لولدها المطالبة، لأنه قدح في نسبه، ولأنه يقذف أمه بنسبته إلى أنه ابن زنى، ولا يستحق ذلك بطريق الإرث، ولذلك تعتبر الحصانة فيه، ولا تعتبر الحصانة في أمه، لأن القذف له. وقال أبو بكر: لا يجب الحد بقذف ميتة بحال، وهو قول أصحاب الرأي، لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة، فأشبه قذف المجنون. وقال الشافعي: إن كان الميت محصنًا فلوليه المطالبة، وينقسم بانقسام الميراث، وإن لم يكن محصنًا فلا حد على قاذفه، لأنه ليس بمحصن، فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيًا، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف من ليس محصنًا حيًا ولا ميتًا، لأنه إذا لم يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيًا فلأن لا يحد بقذفه ميتًا أولى، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الملاعنة ومن رمى ولدها فعليه الحد، يعني من رماه بأنه ولد زنى، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك، فبقذف غيره أولى، ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلًا عن أبيه إذا كان أبواه حرَّين مسلمين، ولو كان ميتين، والحد إنما وجب للولد، لأن الحد لا يورث عندهم فأما إن قذفت أمه بعد موتها، وهو مشرك أو عبد، فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي، سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن. وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: إذا قال لكافر أو عبد: لست لأبيك وأبواه حران مسلمان فعليه الحد، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد: لست لأبيك فعليه الحد، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور وقال أصحاب الرأي: يصح أن يحد المولى لعبده، واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر إحصانها دون إحصانه، لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة، ولأن معنى هذا: إن أمك زنت فأتت بك من الزنى، فإذا كان من الزنى منسوبًا إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها. ولنا ما ذكرناه، ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد، لأن الكافر لا يرث المسلم، والعبد لا يرث الحر، ولأنهم لا يوجبون الحد لقذف بحال، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه.
والله أعلم اهـ. بطوله من المغني.
وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة، إن كان لها أولاد، ورمي المرأة الحية التي لها أولاد، وبه نعلم أن الحد يورث عند المالكية والشافعية إلا أنه عند المالكية، لا يطلبه إلا الفروع والأصول، ويحد بطلب كل منهم وأن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحد، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الأخوة والعصبة، وكل ذلك يدل على أنهم ورثوا ذلك الحق في الجملة عن المقذوف الميت، وأن الشافعية يقولون: إنه ينقسم بانقسام الميراث، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور، وأن الحنفية يقولون: إن الحد لا يورث، وهو ظاهر المذهب الحنبلي، وأن بعض أهل العلم قال: لا يحد قذف ميتة بحال.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم في هذه المسألة: أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي لأنه مقذوف، خلافًا لما في كلام صاحب المغني، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام، ويحد له القاذف. وقول صاحب المغني تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى، لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه، لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى، فإنه هو لا ذنب له، ولا يعتبر زانيا كما ترى.
والحاصل: أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم، وبطلب الولد، وإن كانت حية، لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة، وإن كانت الأم لا ولد لها أو لها ولد ولا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة: هل يحد من قذف ميتًا أو لا؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها، ولكل واحد من القولين وجه من النظر، لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة، ووجه الثاني: أن الميتة لا يصح منها الطلب، فلا يحد بدون طلب، لأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف، وإن كان كذبًا بل يفرح به، لأنه يكون لها فيه حسنات، وإن كان حقًا ما رماه به، فلا حاجة له بحده بعد موته، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه. اهـ.
وأقربهما عندي أنه تعزيرًا رادعًا ولا يقام عليه الحد.
واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق، فقد قال بعض أهل العلم: إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به، وهو مذهب مالك، ومن وافقه.
والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده، لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد، وهو يعلم أنه محق فيما قال: والعلم عند الله تعالى.
وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك رده، وخروج من دين الإسلام، وهو ظاهر لا يخفى، وأن حكمه القتل، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال وقال بعض أهل العلم: تقبل توبته إن تاب، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب، ولو من أعظم الكفر. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة والعشرون: في حكم من قذف ولده:
وقد اختلف أهل العلم في ذلك. قال في المغني: وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه، سواء كان القاذف رجلًا أو امرأة وبهذا قال عطاء، والحسن، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وقال مالك، وعمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، وابن المنذر عليه الحد لعموم الآية، ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى.
وأظهر القولين دليلًا: أنه لا يحد الوالد لولده لعموم قوله: {وبالوالدين إِحْسَانًا} [البقرة: 83] [النساء: 36]، [الإنعام: 151]، [الإسراء: 23] وقوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23] فلا ينبغي للولد أن يطلب حد والده للتشفي منه، وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال، لأنهم يقولون: إن الولد يمكن من حد والده القاذف له وأنه يعد بحده له فاسفًا بالعقوق كما قال خليل في مختصرة وله حد أبيه وفسق، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة، والشرع لا يمكن أحدًا من ارتكاب كبيرة. كما ترى مع أن الروايات عن مالك نفسه ظاهرها عدم الحد وقاله غير واحد من أهل مذهبه.
المسألة السادسة والعشرون: في حكم من قتل أو أصاب حدًا خارج الحرم، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفي منه الحق في الحرم، أو لا يستوفي منه حتى يخرج من الحرم؟
اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب:
الأول: أنه يستوفي منه الحق قصاصًا كان أو أحدًا قتلًا كان أو غيره.
الثاني: أنه لا يستوفي منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم سواء كان قتيلًا أو غيره.
الثالث: أنه يستوفي منه كل شيء من الحدود إلا القتل، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم، ولا في قصاص والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم.
قال ابن قدامة في المغني: وجملته أن من جنى جناية توجب جناية قتلًا خارج الحرم، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه، وهذا قول ابن عباس: وعطاء، وعبيد بن عمير، والزهري، وإسحاق ومجاهد، والشعبي، وأبي حنيف وأصحابه.
وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس، فعن أحمد روايتان.
إحداهما: لا يستوفي من الملتجيء إلى الحرام فيه.
والثانية: يستوفي وهو مذهب أبي حنيفة، لأن الروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام: «فلا يسفك فيها دم» وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي، وهي ظاهر المذهب.
قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه: أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته، حتى يخرج منه إلى أن قال: وقال مالك والشافعي وابن المنذر: يستوفي منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني، وقطع السارق، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان. اه محل الغرض منه.
وقال ابن حجر في فتح الباري. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم، ويوعظ، ويذكر حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يخرج مضطرًا إلى الحل وفعله ابن الزبير.
وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس: من أصاب حدًا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع. وعن مالك والشافعي: يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن. اه محل الغرض منه.
وقال الشوكاني في نقيل الأوطار مشيرًا إلى إقامة الحدود واستيغاء القصاص في الحرم، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان. وذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، والحنيفة، وسائر أهل العراق، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة: إلى أنه لا يحل أن يسفك بالحرم دمًا، ولا يقيم به حدًا حتى يخرج منه من لجأ إليه. اه محل الغرض منه.
وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه أدلتهم ومناقشتها: أما الذين قالوا: يستوفي منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك، والشافعي، وابن المنذر، ومن وافقهم، فقد استدلوا بأدلة:
منها: أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص، ليس في شيء منها تخصيص مكان دون مكان ولا زمان دون زمان، وظاهرها شمول الحرم وغيره. قالوا: والعمل بظواهر النصوص واجب، ولاسيما إذا كثرت.
ومنها: أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة الحرم، لأن أحق البلاد، بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمة، وطاعة الله في حرمة ليس فيها انتهاك له كما ترى.
أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم ولا فارًا بخربة، فهو استدلال في غاية السقوط، لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط غلظ غلطًا فاحشًا، لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما، قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: أئذن لي أيها الأمير أحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد لله، وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ، الشاهد الغائب» فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح: إن الحرم لا يعيذ عاصيًا إلى آخره، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح لما ذكر له كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق، ولاسيما في حال معارضته به لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم رحمه الله مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسنادًا ومتنًا.
وإذا تقرر أن القائل إن الحرم لا يعيذ عاصيًا إلى آخره هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له في الحرم، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أن حرمتها عادت كما كانت، ففعله صلى الله عليه وسلم في وقت إحلال له ساعة في نهار، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة كما ترى.